د. سائد الكوني * - النجاح الإخباري -  



ما لبثت حكومة الوفاق الوطني أن أطلقت أجندة سياساتها الوطنية للأعوام 2017-2022 تحت شعار "المواطن أولاً" في شباط 2017 حتى بدأت خطوات تنفيذها تشق طريقها على أرض الواقع، وأُعد لهذا الغرض سلسلة منظمة من المؤتمرات والفعاليات، شكل بدايتها المؤتمر الوطني الأول للتنمية الاقتصادية المحلية، الذي عقدته وزارة الحكم المحلي في شهر آذار من العام الجاري، وحقق نجاحات كبيرة بما إشتمل عليه من دراسات علمية قدمها مختصون محليون ودوليون في مجالات التنمية المحلية. وما عزز تلك النجاحات هو ما إتخذ فعلاً من خطوات عملية لتنفيذ توصيات المؤتمر التي تمحورت حول التمكين للشراكات التنموية بين الهيئات المحلية ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني في فلسطين، وجاري الإعداد لبعضها حالياً من خلال برنامج "التعاون عبر الحدود في البحر الأبيض المتوسط" (ENI CBCMED) الذي يُشرف على إدارته مباشرةً مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي بتمويل يصل إلى 84.6 مليون يورو، ويُشجع على بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني بغرض تنفيذ مشاريع تنموية في مختلف المجالات، خاصة تلك التي تخدم المحافظة على البيئة والمناخ؛ ومنها الاستثمار في الطاقة النظيفة ومعالجة المياه العادمة وتدوير النفايات الصلبة.

وتشهد نهاية تشرين الأول الجاري حدثاً آخراً هاماً في إطار العمل بمنظومة أجندة السياسات الوطنية يتمثل في عقد المنتدى الحضري الفلسطيني الثاني تحت رعاية وحضور رئيس الوزراء الفلسطيني د. رامي حمد الله في 30 و 31/10/2017 الذي تستضيفه جامعة بيرزيت. ويأتي هذا المنتدى كمساهمة أخرى من قبل وزارة الحكم المحلي لمساعي إنفاذ أجندة السياسات الوطنية بالشراكة مع عددٍ من الجامعات والمؤسسات والمنظمات المحلية والدولية، وكذلك أكاديميين ومهنيين فلسطينيين ودوليين متخصصين. وكانت وزارة الحكم المحلي، ومن منطلق مسؤوليتها عن التخطيط العمراني في فلسطين والصلاحيات المُخولة لها بمقتضى هذه المسؤولية، قد دعت إلى عقد المنتدى الحضري الفلسطيني الأول قبل خمس سنوات في الفترة ما بين 27-29 آذار من العام 2012، بالتعاون مع "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (UN- Habitat) وبالشراكة مع جامعة النجاح الوطنية وبلدية نابلس، تحت شعار "نحو تنمية حضرية فلسطينية مستدامة-مسؤولية جماعية"، وهدف المنتدى في حينه الى تعزيز السياسة والحوار العام حول الوضع الراهن وآفاق التنمية الحضرية في الأراضي الفلسطينية، وإبراز أهم التحديات والمعوقات التي تواجه التنمية الحضرية وعملية التخطيط السليم.

يكتسب المنتدى الحضري الفلسطيني الثاني أهميته من كونه يأتي عقب تبني دولة فلسطين للأجندة الحضرية الجديدة وأهداف التنمية المستدامة 2030 التي إعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2015، وكذلك تبنيها لإتفاق باريس للمناخ في ذات العام، وغيرها من الأطر الإنمائية العالمية، وآخرها الخطة الحضرية العالمية المنبثقة عن نتائج مؤتمر الموئل الثالث للإسكان والتنمية الحضرية المستدامة المُنعقد في العاصمة الاكوادورية كيتو في الفترة ما بين 17-20 تشرين الأول/أكتوبر 2016، والذي نجحت فيه جهود الحكومة الفلسطينية بانتخاب دولة فلسطين كأحد نواب رئيس هذا المؤتمر الدولي الذي يُعقد مرة كل عشرين عاماً؛ أولها عام 1976 وثانيها عام 1996. بالإضافة إلى أهمية ما ذُكر آنفاً عن علاقة المنتدى بأجندة الحكومة الفلسطينية للسياسات الوطنية التي تتضمن أهدافاً للتقريب والتكامل في الأدوار بين المواطن الفلسطيني وهيئاته المحلية وزيادة الشفافية وتحقيق المزيد من العدالة، عدا عن أن نتائجه وتوصياته ستحظى بفرصة عرضها في المنتدى الحضري العالمي التاسع المتوقع أن يبدأ في 7 شباط/فبراير 2018 في كوالالمبور بماليزيا مما يُكسبها التأييد والدعم الدوليين.

إن جهود الحكومة لا تنصب فقط على تحسين الظروف المعيشية للمواطن وبناء مؤسساته الوطنية التي تسعى لخدمته وتأمين العيش الكريم له، وإنما تمتد إلى تعزيز الحضور الدولي النشط لدولة فلسطين في المؤتمرات والمحافل الدولية الهامة والمؤثرة في رسم السياسات الدولية التي لها إنعكاسات كبيرة على واقعنا الفلسطيني. إلا أن إمكانية بناء المستقبل الزاهر المنشود للمواطنين وتوفير العيش الكريم الآمن في دولة المؤسسات والقانون لا يمكن أن تتأتى دون مشاركتهم الفاعلة وتحملهم لنصيبهم من المسؤولية في هذه العملية التشاركية، وقد أثبت شعبنا في مختلف الأزمنة قدرةً على الصمود ورغبةً في الحفاظ على النسيج المجتمعي المنسجم الذي يربطنا ببعضنا البعض، وتُبرهن خطوات المصالحة الجارية أننا أيضاً قادرون على تنظيم أنفسنا وعلى الاتحاد أكثر من أي وقت مضى.

إن ما يطمح له المنتدى من بناء حواضر فلسطينية ذكية، على غرار مدن العالم الذكية، ينبغي أن ينبع أولاً وقبل كل شيء، من إنتمائنا لقضايانا الجمعيّة وتغليب مصلحتها على مصالحنا الخاصة إذا تعارضت أو لم تنسجم معها، ومن ثَم الإستعانة بخبراتنا المتعددة لإعداد مشاريع حضرية وتنموية من شأنها أن تجمعنا وتخدم قضايانا الوطنية، وتستفيد من تنوعنا الثقافي وإمكانياتنا المتوفرة والمتاحة، وعقولنا النيرة، وباحثينا، وحرفيّنا، ورجال أعمالنا، وغيرهم من أصحاب المصالح الذين يشكلون مكونات مجتمعاتنا المحلية في إطار عمل جماعي مشترك، وليكن شعارنا "معاً نبني الوطن".

إن إختيار حكومة الوفاق الوطني شعار "المواطن أولاً" لأجندة سياساتها الوطنية لم يأتي عبثا،ً فأساس التنمية المستدامة هو المواطن، وبمشاركته في صناعة القرار وتحمل المسؤولية تبدأ، كلٌ في نطاق عمله ومحيط تأثيره، وتنتهي بخدمته في إطار تنفيذ الحكومة لما يُتفق عليه من سياسات واستراتيجيات تضمن الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة من أجل إحداث التنمية المستدامة، و"جعل المدن والتجمعات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة" بما يشمل السكن والنقل، والتخطيط، والتراث الثقافي والبيئي، والحد من الكوارث، والأثر البيئي، والأماكن العامة، حسبما ورد في نص الهدف الحادي عشر من ضمن الأهداف السبعة عشرة لأجندة التنمية المستدامة 2030. 

إن عقد المنتدى الحضري الفلسطيني الثاني يأتي في وقت تفاقمت فيه المشاكل البيئية التي يشهدها المواطن الفلسطيني في أماكن سُكناه، وأصبحت تُشكل تحديات حقيقية مستفحلة في حياتنا اليومية، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالمكبات العشوائية للنفايات وسيول المياه العادمة وما تلحقه من أضرار بيئية وصحية جسيمة بمجتمعاتنا المحلية. وفي هذا الخصوص فإن المؤتمرون مطالبون، ومن باب الحفاظ على مواردنا الطبيعية المحدودة بفعل الصلف الإحتلالي وتحكمه بها، تقديم حلول وآليات عملية تمكن من تحقيق إقتصاد دائري مهمته تقليل الأثر البيئي إلى أدنى حدوده، وتُسهم في تحول مدننا وبلداتنا وقُرانا من مجتمعات تطرح المنتجات بعد إستهلاكها إلى مجتمعات تستديمُها من خلال إعتماد مبدأ إعادة التدوير والاستخدام بدلاً من الاستبدال، بحيث تصبح النفايات والمياه العادمة موارداً يُعاد إستخدامها لا أعباءاً ينبغي التخلص منها.

ولا بد أن يتناول المنتدى أيضاً ظاهرة الزحف العشوائي للمناطق السكنية وتهديده الخطر للقطاع الزراعي والسلة الإقتصادية الفلسطينية من المنتجات الزراعية، والضرر الذي يُلحقه بالتنوع البيولوجي، وإضعاف خدمات النظم الإيكولوجية. وتتوجب الدعوة إلى تكثيف الجهود المشتركة للحد المرحلي من هذه الظاهرة ومنعها المستقبلي من خلال الخروج بتوصيات تُشكل خارطة طريق واضحة لصُنّاع القرار في القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني، وتخدم أغراض التوجيه العام في هذه المسألة الحيوية الهامة لإقتصادنا الفلسطيني. وأنصح أن يخلُص المؤتمر إلى التوصية لوزارة الحكم المحلي بتشكيل لجنة مختصة مكونة من الجهات الحكومية ذات الاختصاص وممثلين عن القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع الوطني تُكلف بتطوير خطة حضرية وطنية شاملة على غرار نموذج "المخطط المكاني"، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من سكان المدن والبلدات والقرى الفلسطينية من خلال توسعات حضرية يُخطط لها بعناية لتلبية تلك الاحتياجات، وتشتمل هذه الخطة على مخططات بناء لشبكات البنى التحتية اللازمة والمرافق المجتمعية الأساسية (من مدارس، عيادات صحية، أماكن ترفيهية مفتوحة للعموم، وغيرها)، وتُدَعّم بمقترحات تمويلية وتنظيمية وقانونية محددة تُهيأ لنجاحها.

إننا نتطلع إلى أن يُشَكّل المنتدى رافعة لتعزيز النهج التشاركي المسؤول بين فئات المجتمع وقطاعاته المختلفة، سيما وأن عملية التخطيط العمراني في فلسطين تتميز ببعدها الوطني كإحدى أدوات تعزيز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه في مواجهة ممارسات الاحتلال التهجيرية والتوسع الاستيطاني الذي يبتلع الأرض الفلسطينية، ويحد من الامتداد العمراني للمدننا وبلداتنا وقُرانا، ويقف عائقاً رئيسياً أمام اقامة دولتنا العتيدة.

وفي إطار هذه الجهود لا بد من أن يتناول المنتدى البحث في الآليات التي تخدم تعزيز توجهات وخطط وزارة الحكم المحلي الرامية إلى اصلاح أنظمة الحكم المحلي، والمُضي قُدماً نحو المزيد من اللامركزية، ودعم وزيادة قدرات الهيئات المحلية على الاستجابة لمواطنيها من خلال "الخطة عبر القطاعية للحكم المحلي"، التي تضمن رؤية الوزارة حول رفع نسبة المشاركة الشابة في التنمية والتخطيط الحضري، وتعميق المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات الأساسية، وسعيها لإدماج النوع الاجتماعي وتعزيز فرص مساهمة النساء من العضوات والعاملات في الهيئات المحلية على إحداث التغيير المطلوب على المستوى العمراني في البلدات والمدن الفلسطينية من أجل جعل هيئاتنا المحلية أكثر أمناً وأنتاجية.
 

رئيس ديوان رئيس الوزراء