حنان باكير - النجاح الإخباري - اختارت خطواتي الإمعان في الرحيل والابتعاد عن أرض المنشأ. فكل بلاد الله تصبح سيّان، ما دمت خارج الوطن. فأنت لاجئ حيثما حللت. وصفة اللجوء تسقط من هيبتك الاجتماعية. لم يخطر ببالي وأنا في الشتات البعيد أن أجد نفسي، أقع بفخ ما لا أحب. المقارنة والمفاضلة، بين الثقافات والشائع من موروثات اجتماعية. هذه المقارنة، ليست من باب النفاق لحضارة أقيم في مرابعها. لكن من باب القهر على أوضاع نحياها، في البلاد التي عشقناها.

المشاهدات والتجارب اليومية، تضعك بغير إرادتك أمام المقارنة، بين ما خبرناه ونراه في أوطاننا الأولى، وبين ما نعايشه الآن. ففي كل مرة أزور عالمنا العربي، أعود بقهر لا يوصف! دافعي لهذا الموضوع، كان رسالة على جوالي من المستشفى، الذي زرته لفحوصات دورية، تطلبها منّا الدوائر المختصة، هنا في أوسلو. في الرسالة تطلب إدارة المستشفى، رأيي الخاص، عن المعاملة التي تلقيتها، من الطبيب وموظفي المستشفى، وإن كان لدي أي ملاحظات، حول طريقة تعاملهم!

رسالة قصيرة، تعيدك الى مستشفياتنا العربية، وعدم استقبال المرضى، قبل دفع مبلغ معلوم من المال مقدما. وكيف يموت المرضى على أبواب المستشفيات! ذات مرة، وفي اليونان، اضطرت ابنتي لدخول المستشفى. وكان طبيبها، الذي يعزف الغيتار بمهارة، يحضر بعد انتهاء دوامه، ليعزف الغيتار ويرنم مع ابنتي الأغاني اليونانية. وصادف أن تزامن يوم خروجها من المستشفى، مع عيد الفصح، وقد أقفل الصندوق، ولا مجال للدفع! قال لنا الطبيب يمكنها المغادرة، ويمكنكم تسديد الحساب بعد العيد، ولم يطلب أي ضمانات.. وهذا ما كان. هنا يستقبلك الطبيب مُسَلِّما ومعرّفا باسمه، كمقدمة قصيرة لمنح المريض شيئا من الألفة والطمأنينة.

في مركز العلاج الطبيعي، الذي خضعت له بعد حادثة معينة، سألني المعالج: هل جربت الكهرباء؟ ويقصد العلاج بالكهرباء. خلت نفسي قد فهمت خطأ. أعدت له السؤال من باب التوكيد، أجبته نعم جربته في أقبية التعذيب! وهنا، جاء دور المعالج للتأكد من صحة ما سمع. فأعاد عليّ تلاوة ما قلته. صمت لثوان.. بدا وكأنما يستعيد ويسترجع ما سمعه، قبل أن يضحك وأشاركه الضحك، ويضيف، لا الكهرباء هنا للعلاج وإزالة الأوجاع. غادر الغرفة، بعد أن ثبت الأسلاك الكهربانية، وانشغلتُ بتأمل الغرفة البيضاء النظيفة.. لفت نظري في منتصف سقف الغرفة، حبل مشنقة حمراء اللون، والى جانبها، تدلى شريطان أحمران طويلان، أدركت وبدون عناء، أنهما لعلاج الرقبة، والكتفين، ولكن المشهد أعادني الى عمليات الشبح والتعليق، حيث "الشابح والمشبوح"، هم أخوة ومن دم واحد! وفي هذا المركز، لاحظت استبدال تسمية " المسنين"، بتسمية " الناضجين".

وفي مجال المراعاة في التسميات، فقد تم استبدال تسمية اليهود، باسم " الموسويين" نسبة للنبيّ موسى. من باب، أن التسمية الأولى تجعلهم قومية وأمة، حيثما كانوا، ولكن اعتبارهم طائفة، فهو يعني أنهم مواطنون في دولهم الأصلية. فهم طائفة، تشبه سائر الطوائف في الوطن الواحد!

ولأن المواطنة ثقافة، وهي مسؤولية الدولة في رعاية أبنائها، وتأمين حاجياته الأساسية، والحفاظ على كرامته، فإن المواطن يشعر بالانتماء لهذا الوطن، والغيرة عليه، ويصبح الوطن بكامل ترابه هو بيته، الذي يحميه، ويحافظ على نظافته وسلامته! وفي بلادنا، نجد البيوت نظيفة، أما الشوارع والأزقة، وأمام البيوت، فتنعدم النظافة، قشور الفاكهة، وزجاجات العصير، تتطاير من نوافذ السيارات.

الانتماءات طائفية، وعشائرية، وليست وطنية. وقد وصف حالنا الفنان مارسيل خليفة في إحدى أغانيه الخفيفة، "معرّم بالطقم الطلياني، فوق الشروال العثماني". والمواطن متروك "ليدبر رأسه" بنفسه، فيعم الفساد والنصب والإحتيال. ولأن المرأة أيضا غير محمية بقوة القانون، فإن الرجل مطالب بحمايتها، فيعمد الى قمعها، والتضييق عليها، وحجز حريتها خوفا عليها.

مشاهدات تفرض عليك المقارنة، وتضعك في اغتراب روحي، أكثر منه اغترابا جسديا، وهنا يكمن القهر الذي لا تستطيع قهره، الا بالحلم أن نكون مواطنين في دولة المواطنة.