النجاح الإخباري - رشا حرز الله: وقفت بنا المركبة أمام بوابة حديدية زرقاء، تعلوها لوحة معدنية خطت عليها عبارة "مستشفى للأمراض النفسية والعصبية- بيت لحم".

حينها استعادت مخيلتنا ما شاهدناه في أفلام السينما عن "العصفورية" أو "السرايا الصفرا" بدت خطواتنا ثقيلة تكاد تثبتنا بالأرض، ونحن نعبر البوابة للمرة الأولى، وفي لحظة ما صور كثيرة تتزاحم، في محاولة لرسم مشهد لما ينتظرنا خلف هذه البوابة.

تقودك بوابة المستشفى نحو باحة فسيحة محاطة بالأشجار والزرع الأخضر، وعلى الجانب الأيمن منها مجموعة من الأطباء والمتدربين، والنزلاء من المرضى، يتقافزون وراء كرة السلة، وإلى اليسار مقاعد استراحة، وسيارة إسعاف تقف تحت لوح من "الزينكو".

خطوات قليلة للأمام، مسافة لا تتجاوز العشرين مترا، ثمة عدد من النزلاء استغلوا دفء أشعة الشمس لتناول إفطارهم، نهضوا، حين لمحونا، واحدا تلو الآخر، تقدم بعضهم لملاقاتنا، تعلو شفاههم ابتسامة عريضة، ومنهم من اكتفى بالتلويح لنا من على مقعده.

"الدهيشة" أو "العصفورية" أو "مستشفى المجانين"، اللفظ الشائع بين عموم المواطنين للدلالة على المكان، فإذا أراد أحدهم ممازحة آخر قال له "أنت مجنون بدك عصفورية"، دون أدنى فكرة عن نزلائها وظروف عيشهم.

في هذا المبنى القديم الذي حولته سلطات الانتداب البريطاني عام 1922، إلى مستشفى للأمراض العقلية خاص بالرجال، بعد أن كان مبنى لإيواء الأيتام، يتلقى ما يربو على 140 مريضا العلاج من بينهم 40 امرأة.

بدأ باستقبال المرضى، كأول مكان متخصص لعلاج الأمراض العقلية والنفسية في الشرق الأوسط، وأصبح عقب النكبة يتبع الحكومة الأردنية، ومع احتلال باقي الأرض الفلسطينية عام 1967، بات المستشفى يتبع ما تسمى بـ"الإدارة المدنية" الإسرائيلية، والتي بدورها سلمته لوزارة الصحة، مع قيام السلطة الوطنية في عام 1994، ليبقى المستشفى الوحيد الذي يقدم خدمات إقامة وعلاج نفسي وعقلي للمرضى الذين يتم تحويلهم من كافة محافظات الوطن.

تسلك ممرا طويلا، تنعطف بعده يمينا، حتى تصل إلى أول أقسام المستشفى، وهو ما يعرف بقسم الإدخال، الذي ما إن يصل المريض إليه حتى يجري عزله عن المحيط، ولا يسمح له بالخروج منه طيلة 10 أيام، كما يمنع أحد من زيارته سواء من العائلة أو الأقارب والأصدقاء، باستثناء الطبيب المعالج، والغرض من ذلك السيطرة عليه وعلى تصرفاته من خلال العلاج المكثف.

في هذا القسم تحديدا، يوجد حاليا عدد من المرضى، تبصرهم عيناك من خلف باب زجاجي محكم الإغلاق، ينقرون بأطراف أصابعهم على الزجاج من الجهة المقابلة، للفت انتباه الزائرين إليهم، قال أحد الممرضين العاملين في القسم "إن عددهم يبلغ ثلاثين شخصا".

"هنا، ليس جميع المرضى عنيفين باستثناء بعض الحالات، التي يجري التعامل معها من خلال العقاقير والجلسات الكهربائية إن تطلب الأمر"، وهو ما أكده رئيس القسم نعيم الشيخ، والذي تابع: "إن المريض ينقل بعدها لقسم النقاهة، ولا يغادره إلا بعد التأكد من أهليته وتحسن وضعه الصحي".

هناك حالات إقامة دائمة في المستشفى يفوق عددها الـ80 حالة، منهم من هو مقيم ما قبل عام 1967، وذلك لعدم وجود أقارب يعتنون بهم أو أحد يمكنه استيعابهم، كذلك لعدم وجود مراكز تستقبلهم وتأويهم، ومن يتوفى منهم يتم دفنه في مقبرة السبيل في بيت لحم.

يدخل المستشفى شهريا نحو 450 مريضا، يتم تحويلهم من خلال مراكز الصحة النفسية والمجتمعية التابع للوزارة، أو من قبل أحد الأطباء النفسيين، وأحيانا من قبل السجون أو المحاكم.

لكن الإدارة تعمل منذ 15 عاما، على وضع خطة لمنع الإقامة الدائمة، واستطاعت تخفيض العدد من 300 حالة إلى 80 فقط، لتشجيع ذوي المريض على استيعابه، ومتابعة حالته، وإيمانها بأن المكان الطبيعي له مع عائلته ومجتمعه.

الصورة المرتبطة بأذهان الناس، أن المكان لإيواء من يعانون من تخلف عقلي، لكن المدير العام للمستشفى عصام بنورة، قال إنه يقدم الخدمة لمن يعانون من أمراض تصيب العقل، كالفصام، والهوس، والاكتئاب، والوسواس القهري، إلى جانب اضطراب في السلوك، واغلبها أمراض وراثية، إلى جانب أسباب تتعلق بالعائلة أو لأسباب أخرى، يمكن للمريض أن يشفى منها بعد تلقيه العلاج.

ما "يحز" ببال بنورة، وطاقم الأطباء، ما يطلقه الناس من تسميات على المستشفى كـ"العصفورية" و"مستشفى المجانين"، والتي من الممكن أن تؤذي مشاعر المرضى، كذلك هناك خوف غير مبرر من قبل البعض من المرضى، أو التعامل معهم بطريقة دونية أحيانا من قبل آخرين.

سُمح لنا بالتجول في العديد من أقسام المستشفى، شريطة عدم التقاط صور للمرضى حفاظا على خصوصيتهم، وبالدخول إلى أولى غرف القسم على بابها وضعت لافتة "غرفة العلاج"، يصدمك كم العفن المفروش على طول جدران الغرفة وعرضها، وتقشف الطلاء نتيجة الرطوبة، وهو ما ينطبق على باقي غرف القسم.

وبالسير عبر الممر الذي قادنا إلى غرف الممرضين، التي لم تكن أفضل حالا من سابقتها، حيث أكل الصدأ الخزائن الحديدية المخصصة لحفظ المقتنيات الشخصية الخاصة بالممرضين وأتلفها، لكن ما يقلق الممرض سلمان عمارين العامل في القسم هو قدم الأجهزة العلاجية الموجودة، وعدم توفر جزء آخر منها.

قال عمارين: "إن الأجهزة هنا بنصف عمر، هناك أجهزة اضطررنا لإحضارها من مستشفى رفيديا الحكومي في مدينة نابلس، لسد النقص الموجود، ورفعنا شكاوى وأرسلنا كتبا للجهات المختصة، دون الحصول على مساعدة".

ويشير بنورة إلى أن المستشفى كان، سابقا، أشبه بسجن مغلق لا يدري أحد ما يدور في أروقته، لكنه اليوم يستقبل الزوار، والمتدربين، ووسائل الإعلام، وأقيمت داخله ملاعب لكرة القدم والسلة وغيرها، ويستطيع نزلاؤه مغادرته لشراء احتياجاتهم، والذهاب إلى المقاهي والأسواق والمطاعم والسهر في بيت لحم، ويعمل بعضهم في الزراعة والمطرزات اليدوية.

ويأسف لرفض بعض العائلات العناية بأولادها المرضى، "هناك عائلات تأتي إلى المستشفى وتضغط علينا لإيواء أبنائها بشكل دائم، ويخبرونا بعدم رغبتهم في إبقائهم معهم في المنزل، ويستعينون بـ "واسطات" من أعلى المستويات، وهناك عائلات أيضا تسيء معاملة المريض، وهناك مرضى لا يسأل عنهم أحد من عائلاتهم منذ مدة طويلة"، قال بنورة.

وأضاف: هذا الأمر يشعر المرضى بأنهم مرفوضون ومنبوذون من قبل عائلاتهم ومجتمعهم، ما يولد لديهم الكراهية، ويدفعهم لطلب البقاء في المستشفى، وهو أمر يفاقم حالتهم المرضية، ويؤخر في شفائهم... ويلجأ بعض المرضى أو عائلاتهم للمشعوذين، اعتقادا منهم أن ابنهم مسه الجن، أو أن تصرفاته هذه ناجمة عن سحر، وهذا يؤخر العلاج ويؤدي على تفاقم المرض.

ويذكر بنورة من ضمن الحالات التي وصلت للمستشفى، أن أحضرت عائلة مريضا يعاني من الشك، وتطور وضعه بحيث أصبح عدوانيا يضرب أشقاءه ويكسر الأثاث، "والغريب أن عائلته طلبت من الأطباء إعطاؤه حبوبا منومة، لأن هناك أحد الشيوخ يقوم بمعالجته منذ سنوات كونه ممسوسا بالجن".

في حالة أخرى، أقنعت إحداهن فتاة عزباء بأن سحرا يحول دون تقدم احد لخطبتها، ونصحتها بتناول نوع من الأعشاب على مدار شهر كامل، لإبطال مفعول السحر، فما كان من الفتاة إلا أن عملت بالنصيحة، ومع انقضاء اليوم الأخير من الشهر، لم يأت أحد لخطبتها، فكانت ردة فعلها غير متوقعة بأن أضرمت النار في المنزل، وكادت أن تحرق نفسها، وأصيبت بعدها باكتئاب شديد وتتلقى حاليا العلاج في المستشفى.

"يعمل المستشفى على توعية عائلات المرضى وتعريفهم بطبيعية مرض أبنائهم، وتوسيع أفكارهم بكيفية التعامل معه، وآلية العلاج، التي لا تقتصر على الدواء فقط وإنما المتابعة في المراكز المختصة"، قال بنورة.

ما يفرح بنورة وطاقم الأطباء، أن هناك حالات همشت وأدخلت المستشفى بوضع صعب، كادت معه حياتها أن تنتهي، واستطاع الأطباء إنقاذهم في الوقت المناسب، والكثيرون منهم عادوا إلى عائلاتهم وواصلوا عملهم وآخرين تزوجوا وأنجبوا أطفالا، وأصبحوا أشخاصا منتجين وفاعلين بعدما فقدوا كل شيء.

وقال: "هذا إنجاز كبير بالنسبة لنا وشعور ممتع، علينا تقبل المرضى ومعاملتهم بصورة إنسانية، فذلك نصف العلاج.

(وفا)