الدكتور جمال عبد الجواد - النجاح الإخباري - مائة عام بالتمام والكمال منذ أصدر أرثر جيمس بلفور - وزير خارجية بريطانيا - تصريحا يعلن فيه تعاطف حكومته مع تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ويتعهد بتسهيل تحقيق هذا الهدف، دون إضرار بالحقوق الدينية والمدنية لسكان فلسطين من غير اليهود. تأسست إسرائيل وتوسعت وازدهرت، فيما وقع ضرر بالغ على الفلسطينيين فخسروا الأرض، وتشتتوا في المنافي وبلاد اللجوء، وخضعوا لاحتلال أجنبي مسلح، وحرموا من ممارسة أبسط الحقوق. نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق أهدافها كاملة، فيما خسر الفلسطينيون كل شيء، ومازلنا في عالمنا العربي نجتهد لفهم ما حدث.

لا شيء أبعد عن المنطق من هذه النتيجة. نجحت الحركة الصهيونية في إعادة تجميع اليهود الذين تشتتوا في العالم لألفي عام، واستخدمت في سبيل ذلك مزيجا من الأساطير الدينية ونتف الوقائع التاريخية، وقامت بإحلال اليهود محل أصحاب الأرض الذين عاشوا فيها قرونا طويلة. حدث كل هذا في القرن العشرين، الذي تعرض فيه الدين وأساطيره للتهميش في بلاد الغرب، وفيما كان العالم يجمع لأول مرة على حق الشعوب في تقرير المصير.

رغم مجافاته لمنطق العقل، فما حدث في فلسطين يتوافق مع منطق التاريخ. الحركة الصهيونية هي نتاج للعالم وللعصر الذي ظهرت وازدهرت فيه، والأرجح أنها ما كانت لتنجح لو أنها تأخرت في الظهور لعقدين من الزمان. بالمقابل فقد خسر الفلسطينيون كل شيء لأن الظروف وضعتهم في موقف مضاد لمنطق التطور التاريخي في الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين.

نشأت الحركة الصهيونية وتبلورت في الغرب، فالصهيونية ظاهرة أوروبية رغم أن تداعياتها وآثارها ظهرت عندنا في الشرق الأوسط. الصهيونية هي انعكاس لثلاث ظواهر كبرى عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كراهية اليهود، أو ما سمي بعد ذلك معاداة السامية؛ والقومية؛ والاستعمار هي الظواهر الثلاث التي صنعت العصر الذي ظهرت فيه الصهيونية وازدهرت.

كراهية اليهود قديمة قدم المسيحية في أوروبا، فقد فرض على الأجيال المتعاقبة من اليهود دفع فاتورة الخيانة التي انتهت بتسليم السيد المسيح لسلطات الإمبراطورية الرومانية لوضعه على الصليب. قتل الرومان السيد المسيح، أو هكذا ظنوا، ومع هذا فإن المسيحيين في أوروبا صبوا غضبهم ليس على أحفاد الرومان، ولكن على الأجيال التالية من اليهود.

كراهية اليهود هي عقيدة وممارسة قديمة في أوروبا المسيحية، لكنها وصلت إلى ذروة عالية في القرنين التاسع عشر والعشرين. المفارقة التاريخية هي أنه بينما كانت أوروبا توغل في العلمانية وعقلانية العلم والثورة الصناعية، كانت كراهية اليهود فيها، خاصة في وسطها وشرقها، تتعمق. انتشرت القومية العلمانية في أوروبا القرن التاسع عشر، ومعها انتشرت معاداة السامية التي حولت كراهية اليهود من قضية تتعلق بالدين إلى قضية تتعلق بالعرق. تحولت الوعود الإنسانية والعقلانية لعصر التنوير إلى عصبية قومية ترفض الآخر المختلف، خاصة لو كان يهوديا.

رفضت القوميات الأوروبية الصاعدة استيعاب اليهود الأغراب، فاخترع اليهود العقيدة الصهيونية تعبيرا عن قوميتهم اليهودية الخاصة. دولة الأمة هي ذروة تبلور الأمة وتحققها، وهي النموذج الأمثل للدولة، هكذا فكر القوميون في أوروبا، وهكذا فكر مثلهم القوميون اليهود، المعروفون بالصهاينة، فنشأت فكرة الدولة اليهودية إسرائيل باعتبارها الخلاص النهائي للشعب اليهودي من الاضطهاد الذي أصبح قوميا بعد أن كان دينيا.

نقل آلاف اليهود إلى فلسطين، والاستيلاء عليها، بعد طرد شعبها، يبدو مهمة صعبة. لكن ممارسات مماثلة كانت شديدة الشيوع في عصر الاستعمار الأوروبي للعالم. ألم يحل ملايين المهاجرين الأوروبيين محل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وجنوب إفريقيا؟ ألم يسيطر بضعة آلاف من المستعمرين البريطانيين على شبه القارة الهندية كلها؟ ألم تصل الظاهرة الاستعمارية إلى ذروتها في القرن التاسع عشر، عندما سيطر الأوروبيون على أفريقيا والشرق الأوسط وما بقي من آسيا؟ إذا كان الاستعماريون الأوربيون نجحوا في هذا، فلماذا لا ينجح الاستعماريون الصهاينة أيضا؟

الصهيونية - رغم شذوذها - هي وليد شرعي لأوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وظف الصهاينة المال والإعلام والسياسة وقوة العلم وترسانات السلاح لتحقيق أهدافهم، وهي نفس الأدوات التي ابتدعها الغرب للسيطرة على العالم. حدث هذا فيما كان الفلسطينيون مجبرين على السباحة عكس تيار التاريخ. ففيما كانت فكرة الدولة الوطنية الحديثة ومؤسساتها تعرف طريقها للشرق الأوسط، وفيما كان كل شعب من شعوب المنطقة يتولى تحرير وبناء وطنه بنفسه، كان الفلسطينيون أسرى أوهام الأخوة العربية والإسلامية. ظهرت الدولة الوطنية الحديثة في مصر وشمال إفريقيا على يد الحكام، الإصلاحيين، وظهرت الدولة الوطنية الحديثة في المشرق العربي تطبيقا لاتفاقات سايكس - بيكو الاستعمارية، التي طالما لعناها، فيما نكافح الآن من أجل الحفاظ عليها. أنشأت سايكس - بيكو دولا مصطنعة وتابعة، لكن كان لهذه الدول من القوة ما يكفي لحفظ الكيانات، ولنا فيما يجري الآن في سوريا والعراق دليل. وحدهم الفلسطينيون حرموا من امتلاك دولة من اصطناع الاستعمار، عندما كان الاستعمار يصنع دولا، فحرموا إلى اليوم من كل دولة.

غياب مؤسسات الدولة الوطنية تسبب في تأخر الفلسطينيين في إدراك أنفسهم كشعب له هويته الخاصة، وفي إدراكهم لفلسطين كوطن للشعب الفلسطيني، وليس كمجرد أرض عربية يمتلكها ويعيش عليها بعض العرب. هيمنت فصائل القوميين العرب المختلفة على السياسة العربية في تلك الفترة، وبالنسبة لهؤلاء فإن فلسطين لم تكن وطنا لشعبها، وإنما مجرد جنوب سوريا العربية. وطن الفلسطينيين يحميه الفلسطينيون، حتى لو تلقوا مساعدة من أشقاء. حماية الأرض العربية هي مسئولية العرب كلهم، فتضيع المسئولية، بالضبط كما حدث عندما دخلت جيوش العرب فلسطين لحمايتها عام 1948

نجت الضفة الغربية من السقوط تحت الاحتلال الصهيوني في حرب 1948، لكن أهلها اختاروا الانضمام للأردن، ولم يمكنوا من بناء دولتهم الخاصة، فيما أصبح الأردن أكبر مساحة وسكانا واقتصادا. سقطت الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1967، فضاع ما بقي من فلسطين، وعاد الأردن صغيرا، لكنه ظل باقيا بفضل دولته الوطنية.

نقلا عن الاهرام المصرية