د. مصطفى الفقي - النجاح الإخباري - قرن كامل مضى على صدور (وعد بلفور) وزير خارجية بريطانيا الذي عبّر فيه عن الاستجابة لآمال اليهود في إقامة وطن لهم في فلسطين، ويعتبر ذلك الوعد أهم وثائق الحركة الصهيونية وأكبر مكاسبها في الربع الأول من القرن الماضي، وذلك لسبب بسيط وهو أن بريطانيا لم تكن دولة عادية بالنسبة لفلسطين، إذ إنها صاحبة الانتداب عليها، وعندما تعطي وعداً فإنها سوف تكون في الغالب قادرة على تنفيذه خصوصاً أنها كانت تزمع على إنهاء الانتداب ذات يوم تاركة فلسطين ممزقة بين العرب واليهود. ولا يخفى على أحد أن ذلك الوعد جاء في غضون الحرب العالمية الأولى، وفي ظل موجة تعاطف مع اليهود، خصوصاً أن المؤتمر الصهيوني الأول كان قد انعقد بمدينة (بازل) في سويسرا بعد سلسلة من الجهود الصهيونية في أروقة الحكم وبلاط السلاطين بدءاً من نابليون مروراً بآل عثمان، وصولاً إلى بريطانيا العظمى التي تكفلت بوعد وزير خارجيتها في السماح لليهود بوطن قومي لهم في فلسطين.

ولقد كان ذلك التعبير الأوروبي كاشفاً عن المسألة اليهودية بأبعادها التاريخية في القارة الأوروبية، وإذا تأملنا رعاة إسرائيل من بداية ميلاد الحركة الصهيونية، فسوف نجد أن بريطانيا كانت هي العراب الأول، ثم تلتها فرنسا لفترة وجيزة والتي اقترنت بالبرنامج النووي الإسرائيلي، ثم كانت الولايات المتحدة هي العراب الدائم الذي يحمي إسرائيل ويعتبر أمنها جزءاً لا يتجزأ من الأمن الأمريكي، وواقع الأمر أن الدور البريطاني يتفوق على غيره بحكم أسبقيته وبسبب التواجد الجغرافي على أرض فلسطين فضلاً عن تأثير بريطانيا في الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، وقد يكون من المفيد أن نسجل الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن وعد بلفور لا يمثل قراراً مُنشئاً لدولة إسرائيل، ولكنه قرار كاشف عن نوايا الغرب عموماً، مع الرغبة الأوروبية العارمة في تفريغ أوروبا من اليهود وحشدهم في أرض فلسطين، وهي أمور كانت مطروحة، ولكن وعد بلفور هو الذي جعلها ذات وضوح علني فيه التزام من واحدة من أهم القوى الاستعمارية في عالم ذلك الوقت وأعني بها المملكة المتحدة.

*ثانياً: إن الحركة الصهيونية حاولت مع الخلافة العثمانية الحصول على شرعية التواجد في وطن قومي على أرض فلسطين، وتختلف التفسيرات التاريخية لموقف خلفاء (آل عثمان) من هذا الطلب اليهودي، فرغم أن هناك اتجاهاً يؤكد رفض المشروع الصهيوني من قِبَل الباب العالي، فإن هناك أيضاً من يرون أن العثمانيين قد فكروا في إرضاء اليهود ولو جزئياً ولم يتخذوا موقفاً رافضاً بشدة لتلك الرغبة التاريخية.

*ثالثاً: إن وعد بلفور يضيف وصمة أخرى لسياسات بريطانيا في مستعمراتها السابقة أو المناطق التي كانت تحت الانتداب، فلقد تركت دائماً وراءها مشكلات تؤرق أبناء شعوب تلك المناطق لعشرات السنين القادمة، ويكفي أن نتذكر ما جرى في فلسطين بين العرب واليهود، وفي كشمير بين الهند وباكستان، وفي السودان بين شماله وجنوبه، بل إن الحساسية التاريخية لدى قطاع كبير من السودانيين تجاه الشمال ومصر تحديداً هي زراعة بريطانية وصناعة استعمارية لم نبرأ من نتائجها السلبية حتى اليوم.

*رابعاً: إن وعد بلفور سوف يبقى في الذاكرة العربية بل والعالمية أيضاً شاهداً على العبث التاريخي في مناطق مختلفة من العالم والسعي نحو تمزيق الوحدة الإقليمية لأراضي المستعمرات السابقة، وعندما كتب عبدالناصر رسالته الشهيرة إلى الرئيس الأمريكي (جون كيندي) ذاكراً فيها عبارته الشهيرة عن وعد بلفور أنه (وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق) وكان بذلك يضع يده على مكمن الخطر، وسبب الخطيئة التي دفع الفلسطينيون ودول الجوار ثمناً فادحاً لها بحروب متوالية وصراعات دامية مازالت نتائجها ماثلة على الأرض الفلسطينية حتى اليوم.

*خامساً: إن الذكرى المئوية لوعد بلفور تأتي والمنطقة العربية لا تبدو في أحسن أحوالها نتيجة التدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، إذ إن مئة عام بعد (سايكس - بيكو) تبدو وكأن هناك محاولات لإعادة تمزيق المنطقة وتقسيمها إلى دويلات في ضربة خبيثة ضد مفهوم الدولة الوطنية، وليس ذلك غريباً على من يستهدفون المنطقة ويصدرون لها الأزمات الطارئة بعد أن زرعوا فيها المشكلات المزمنة والألغام القاتلة، بل إننا نردد أحياناً (ما أشبه الليلة بالبارحة)، فالذين أصدروا وعد بلفور وشاركوا قبله في رسم خريطة لدول المنطقة هم الذين يقفون اليوم لإعادة رسمها من جديد وفقاً لمصالح القوى الكبرى صاحبة الأطماع في مستقبل المنطقة العربية، بعد أن تفتحت شهيتهم نتيجة أحداث ما يسمى «الربيع العربي» وما نجم عنها من فوضى ضربت بعض دول المنطقة على نحو لم يكن متوقعاً، إذ مازالت بعض شعوب المنطقة العربية تصارع من أجل الوجود وتتنازع على الحدود، وتمضي في طريق يبدو أحياناً وكأنه اقتراب من المجهول.

إن وعد بلفور في عامه المئة يذكرنا بالحقوق الفلسطينية والأرض العربية التي جرت فوقها خمس حروب دامية ومثلها انتفاضات باسلة، وما زالت إسرائيل تمضي في بناء المستوطنات وتغيير المعالم على الأرض وتشويه أصحاب القضية أمام الرأي العام في العالم نتيجة الخلط المتعمد بين الكفاح المسلح والإرهاب الدموي. والغريب أن إسرائيل تفلت دائماً من الإدانة الدولية اعتماداً على الحماية الأمريكية الدائمة و«الفيتو» الذي تستخدمه واشنطن ضد من يقترب من حليفها الأول في الشرق الأوسط بل وربما في العالم كله..

المجد للشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أوطانهم وتمسكاً بأرضهم واحتراماً لأوطانهم.

عن «الحياة»