الدكتور حسن عبد الله - النجاح الإخباري - عند الحديث عن ارتباط الإنسان بالمكان، تبرز شجرة الزيتون في الحاكورة والبستان والحقل والحي، في السهل والوادي والجبل، كشاهد على ثبات الشجرة في المكان والزمان كمعلم إنتاجي وجمالي ودلالي، فنحن الذين ولدنا وتربينا في الريف، فإن شجرة الزيتون عامل متشكّل في وعينا وذكرياتنا ، لقد لعبنا تحت شجرة معينة، وفي ظلال شجرة زيتون كنا نقرأ المقرر ونحن نستعد لامتحاناتنا، وتحت شجرة الزيتون سمعنا أحاديث وقصص الكبار أنصتنا للقصص الحزينة وضحكنا من النوادر الفكاهية التي كانت تروى عن أشخاص في القرية، وتحت شجرة الزيتون أصيغنا إلى أحاديث السياسة عن الحرب وجمال عبد الناصر وياسر عرفات.

شجرة الزيتون شكلت لنا مصدر دخل وغذاء ومنتدى وساحة للعب ومكاناً للقراءة ومشهداً مبهجاً جميلاً لتوازن الروح، وككاتب وإعلامي مهتم بالمكان، فإن من استضفتهم وحاورتهم من كتّاب بخاصة ممن ولدوا وامضوا سنوات من أعمارهم في القرى، كانت شجرة الزيتون العامل المشترك لمعظم الكتاب والمثقفين لدى حديثهم عن محطات من تجاربهم الحياتية، بمعنى أن هذه الشجرة المباركة هي جزء أصيل من المكان، لا يمكن تصور قرية خالية من أشجار الزيتون، لأن خلوها من هذه الشجرة، ينزع منها وعنها رمزية وعطاء الريف.

وكطفل ولد في الريف وتنسم عبيره، عشت طفولتي وشبابي بكل التفاصيل المتعلقة بشجرة الزيتون، وعُجنت في قيمتها الاقتصادية وتشربت رمزيتها المعنوية، واختزنت ذاكرتي عديد القصص والمواقف التي استمعت إليها وعايشتها تحت الشجرة، بخاصة في موسم القطاف، لذلك فإن الشجرة ظلت حاضرة في معظم ما كتبت من نصوص أدبية، بل إنها عنونت بعض مجموعاتي القصصية مثل "عاشق الزيتون"، "من مذكرات زيتونة"، وعندما عدت إلى القرية بعد سنوات من العمل في الإعلام والاعتقال والانشغال في الجانب الوظيفي في المدينة، غرست مزيداً من أشجار الزيتون لتضاف إلى أشجار قديمة والأصح موغلة في القدم ورثناها عن الأجداد، فحين تتلبسك شجرة الزيتون ذكريات وثقافة رمزية لا تستطيع أن تخرج منها، ولماذا تخرج منها أصلاً وهي عنصر أصيل في التكوين الثقافي والنفسي لشعبك على مدى قرون وقرون؟!

في موسم قطف الزيتون لهذا العام، وخلال مشاركتي الأهل في جمع غلة الموسم، وأنا أجلس تحت شجرة يقدر عمرها بمئات السنين، تساءلت كم من الناس مروا تحت هذه الشجرة، تحدثوا وتناولوا طعامهم وحلموا وتمنوا، لقد رحل الكبار وظلت الشجرة واستمرت الأجيال من بعدهم تمارس طقوس الاحتفاء بالزيتون، تغيَّرت بعض العادات ودخلت الحداثة، وصرت ترى شاباً يجمع الثمار بيد، ويحمل بيده الثانيه هاتفه النقال ويتابع مكالمة هاتفية، لكن وهو يجول بعينيه بين أغصان الشجرة يعاين الثمار وحتى الأحاديث والفكاهات صار لها طعم مختلف، لقد ترك عليها العصر وتطوراته بصماته الخاصة، وهذا أمر طبيعي، إلا أن الأطفال ما انفكوا يمارسون تحت الشجرة طقوسهم في اللعب واللهو بجوار الآباء والأمهات والأعمام والعمات والأخوال والخالات الذين يوظفون في الموسم قدراتهم وطاقاتهم في القطاف، حتى أن بعضهم قد اختار إجازته السنوية لتتناسب مع الموسم، ليكون حاضراً، مشاركاً، محتفلاً.

واللافت في قرانا، أن أجيالاً جديدة من أشجار الزيتون، أضيفت إلى الأشجار القديمة المعمرة، ودخلت عملية الإنتاج، ما يؤكد أن ما يتم استهدافه من أشجار سواء من خلال المصادرة أو جرافات المستوطنين، يعوّض بالجديد، وكأن شجرة الزيتون، أصبحت من أركان الصمود على هذه الأرض وعنواناً وطنياً، ضمن عناوين هويتنا الثقافية والاجتماعية والنفسية، فهي شاهد لا تشطبه الجرافات، على تاريخنا وامتدادنا، فقد عشنا بالزيتون غذاءً وروحاً وجمالاً وهوية، وسنستمر فيه وبه، ليظل وطننا مطرزاً بالزيتون خضرةً وبهاءً، واختم بما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة " لن يفهمني أحد غير الزيتون"، فالزيتون يفهمنا ونفهمه، ولنا معه لغة مشتركة فيس الزمان والمكان قديماً وحديثاً وفي كل العصور، ولن تتنكس رايتنا ما دامت مطعمة ومزينة بالزيتون.