النجاح الإخباري - عند مطالعة كثير من الأدبيات الأجنبية التي درست وقيّمت حرب أكتوبر المجيدة، كان لافتاً أن مصطلح "konzeptzia" كان دارجاً في كثير منها. ويتلخص هذا المفهوم- كما تم توظيفه في تلك الكتابات- في أن نجاح مصر في تحقيق الانتصار العسكري الباهر على إسرائيل في تلك الحرب يعود، في قسم منه، إلى التصورات النمطية التي سادت لدى صانعي القرار الإسرائيليين وتقوم في الأساس على أن "مصر لن تحارب".

هذه التصورات النمطية ثبت أنها لم تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، والتي كانت تؤكد أن مصر تستطيع أن تحارب وتنتصر ولديها القدرة على تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي ووضعها في حدودها الطبيعية.

ورغم مرور خمسين عاماً على تلك الحرب المجيدة، إلا أن هذا المصطلح ما زال دارجاً، لكنه لم يعد موجوداً حصراً في الكتابات والأدبيات التي تدرس وتقيم تلك الحرب المجيدة بعد مرور نصف قرن على نشوبها. إذ يمكن القول إن المفهوم نفسه بات رقماً مهماً في تفسير كثير من الأحداث والتفاعلات التي طرأت على الساحتين الدولية والإقليمية في العقود الماضية، سواء كانت إسرائيل طرفاً فيها أم قوى أخرى في الإقليم والعالم.

وتبدو الحرب الحالية التي تدور رحاها بين إسرائيل وحركة حماس، والفصائل الفلسطينية الأخرى وبعض المليشيات الأخرى، والتي بدأت بالعملية العسكرية الكبيرة التي شنتها "كتائب القسام"- الذراع العسكرية لحركة حماس- باسم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الجاري، مثالاً على ذلك.

إذ يمكن القول إن أحد أسباب الإخفاق الأمني الكبير الذي منيت به إسرائيل خلال تلك العملية- والذي اعترف به رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) روني نبار الذي أعلن تحمله المسئولية عن ذلك- يكمن في وجود تصورات نمطية مسبقة بأن العمليات التي يحتمل أن تشنها الفصائل الفلسطينية لا يمكن أن تصل إلى هذا المستوى من الدقة والتنظيم، وأن أقصى ما يمكن أن تقوم به الأخيرة هو شن "رشقات صاروخية" ضد بعض المدن الإسرائيلية.

هنا، يمكن القول إن هذه التصورات النمطية عن الخيارات المتاحة أمام الخصوم للتعامل مع التطورات الموجودة على الأرض، تنتج في كثير من الأحيان تداعيات مباشرة، تبدو واضحة في بعض الأزمات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الماضية. وتتمثل تلك التداعيات في:

1- التغاضي عن مؤشرات التصعيد: هذا النمط من التصورات يجعل صانعي القرار في هذه الدولة أو تلك يتغاضون عن مؤشرات عديدة يمكن أن تكون كاشفة عن خيارات معينة قد يتجه إليها الخصوم. وهنا، كان لافتاً أن إسرائيل تغاضت عن التدريبات العسكرية التي أجرتها حركة حماس، قبل شهر تقريباً من إطلاق عملية "طوفان الأقصى"، وتضمنت محاكاة لعملية اقتحام السياج الحدودي. بل إن اللافت في الأمر، أن حركة حماس نفسها بثت فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، في 12 سبتمبر الفائت، تضمن جزءاً من التدريبات، خاصة فيما يتعلق باستخدام المتفجرات في عملية الاقتحام، وبناء مجسم لمستوطنة يتم الهجوم عليها.

2- قراءة المعطيات على "عِلاَّتها": قرأت إسرائيل بعض التحركات التي قامت بها حركة حماس على عِلاَّتها، بمعنى عدم فهم مغزاها الحقيقي، واستيعاب أنها قد تكون جزءاً من مخطط يسعى من خلاله هؤلاء الخصوم إلى "خداع" هذه الدولة، وإيهام صانعي القرار فيها بوجود سقف معين من الخيارات لا يستطيعون تجاوزه، على نحو يؤدي في الوقت نفسه إلى تحديد سقف الخيارات التي تستند إليها هذه الدولة نفسها.

وهنا، فإن إسرائيل قرأت عزوف حركة حماس عن المشاركة في المواجهات العسكرية الأخيرة التي اندلعت بينها وبين حركة الجهاد الإسلامي، على أنه مؤشر إلى أن الحركة لا تسعى إلى الانخراط في حرب معها، وأنها تكتفي حالياً بإدارة التفاعلات معها بناء على القواعد التي تم إرسائها بين الطرفين خلال آخر المواجهات التي نشبت بينهما، وهو ما ثبت أنه غير صحيح، على اعتبار أن التحضير لعملية عسكرية نوعية بهذا الشكل يستلزم وقتاً غير قصير من الإعداد والتدريب ورصد الأهداف.

3- الاعتماد على "استنساخ" التجارب: وتبدو حالة سوريا مثالاً على ذلك. فعندما اندلعت الأزمة في سوريا في مارس 2011، كانت كل التكهنات تصب في اتجاه "حتمية" انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، على غرار ما حدث بالنسبة لبعض الأنظمة السياسية الأخرى، في تونس ومصر واليمن. واستندت تلك التكهنات إلى ما يمكن تسميته بـ"أثر الفراشة" The Butterfly Effect، والذي طرحه عالم الفيزياء ادوارد لورينز Edward Lorenz عام 1963 لتفسير بعض المتغيرات المناخية حول العالم، وتتلخص فكرته الأساسية في أن تطوراً بسيطاً قد ينتج تراكمات بعيدة المدى تصل ارتداداتها إلى مناطق شاسعة حول العالم.

ومن هنا، تركز السؤال الرئيسي في الأعوام الستة الأولى من الأزمة السورية حول متى سيسقط النظام السوري؟، وبدأت قوى إقليمية ودولية عديدة في التعاطي مع الإجابة المتوقعة لهذا السؤال وكأنها أصبحت أمراً واقعاً.

لكن النظام السوري خالف كل التوقعات ولم يسقط، وهو ما أعطى انطباعاً بأن استناد هذه التكهنات إلى "أثر الفراشة" تسبب في التغاضي عن متغيرات أخرى كان لها دور في الوصول إلى هذه النتيجة، على غرار مشاركة قوى أخرى إقليمية ودولية فضلاً عن بعض الفاعلين من غير الدول في مساندة النظام السوري ضد خصومه، وهو ما لم يحدث في الحالات العربية الأخرى، وكان ذلك سبباً في الدفع بمفهوم آخر، وهو "البجعة السوداء" the Black Swan، الذي طرحه الكاتب الأمريكي من أصل لبناني نسيم نيكولا طالب في كتاب صدر عام 2007، ويقضي بأن هناك أحداثاً نادرة أو تطورات غير متوقعة تقع في سياق أزمة ما ويكون لها تأثير مباشر على مساراتها النهائية.

ومن هنا، تحول السؤال الرئيسي في سوريا من: متى سيسقط النظام السوري إلى هل سيسقط النظام السوري؟. إذ تغيرت توازنات القوى الاستراتيجية على الأرض لصالح الأخير، وباتت لديه القدرة على تأسيس علاقات جديدة مع قوى سبق أن تبنت سياسات مناوئة له في العِشرية الأولى من الأزمة.

وربما كانت التصورات النمطية أيضاً سبباً رئيسياً في فشل المقاربة التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية لتأسيس أنظمة ديمقراطية في المنطقة، على غرار "النموذج الأمريكي"، في أعقاب اندلاع الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث11 سبتمبر 2001. إذ أنتجت هذه المقاربة مفاعيل عكسية في النهاية، أدت إلى انهيار مؤسسات الدولة أمام التنظيمات الإرهابية التي ظهرت في مرحلة لاحقة على غرار تنظيم "داعش" الذي اجتاح مساحات شاسعة من العراق وسوريا بداية من منتصف عام 2014، وحركة "طالبان" التي سرعان ما وصلت إلى الحكم في أفغانستان مجدداً مع بدء الانسحاب الأمريكي من الأخيرة في أغسطس 2021.

4- الوقوع في "فخ" توازن القوى العسكري: فقبيل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير 2022، كانت معظم التوقعات تصب في اتجاه نجاح روسيا في تحقيق انتصار سريع وإلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الأوكرانية. ومن دون شك، فإن معظم هذه التوقعات اعتمدت في الأساس على ميزان القوى العسكري الذي يميل لصالح روسيا بشكل قاطع.

لكن ميزان القوى العسكري لا يصلح كمقياس في كل الحالات. إذ لا تقارن القدرات العسكرية الأمريكية والفيتنامية على سبيل المثال، ومع ذلك تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لهزيمة مدوية فيها خسرت خلالها أرواح 58 ألف جندي أمريكي، وهو ما تكرر أيضاً في حالتى الغزو السوفيتي والأمريكي لأفغانستان.

هنا، فإن ثمة متغيرات أخرى يجب أن توضع في الاعتبار. وبمعنى أدق، فإنه لا يمكن هنا الاعتماد فقط على المبادئ الأساسية التي اعتمدت عليها النظرية الواقعية في دراسة العلاقات الدولية، والتي تعلي من شأن متغيرات مثل القوة والصراع والدولة وتوازن القوى، رغم أنه لا يمكن تجاهل أن أحد أسباب استمرار الحرب حتى الآن يكمن في الدعم العسكري الواضح من جانب الدول الغربية، والتي لا تسعى من خلاله إلى إلحاق هزيمة بروسيا، بقدر ما تحاول إطالة الحرب من أجل استنزاف الأخيرة.

وانطلاقاً من ذلك، يمكن الإشارة إلى مفهوم "عجز القوة" the failure of power، الذي طرحه كارل دويتش Karl W. Deutsch، والذي يركز على عدم اتساق القدرات التي تمتلكها الدولة مع قدرتها على التأثير في سلوك الفاعلين الآخرين[1]. ومن هنا، فإن العمليات العسكرية التي بدأتها روسيا في 24 فبراير 2022 لم تنجح في إجبار أوكرانيا على التسليم أو الاستجابة للمطالب الأوّلية التي تبنتها روسيا من أجل وقف تلك العمليات.

بل إن النظريات الأخرى في العلاقات الدولية تطرح بدورها أفكاراً لا يمكن تجاهلها في هذا الصدد، على غرار المدرسة البنائية التي تعلي من دور عامل "الهوية الوطنية"  National Identity باعتباره عاملاً يمكن من خلاله تقديم تفسيرات لأسباب استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا حتى الآن رغم الخلل الواضح في توازن القوى لصالح الأولى.

يضاف إلى ذلك التصورات النمطية التي تبنتها القيادة الروسية، والخاصة بالتأثيرات التي يمكن أن تنجم عن قطع إمدادات الطاقة عن الدول الأوروبية. إذ تبين في مرحلة لاحقة، رغم الأزمة المبكرة للطاقة، أن تلك الدول استطاعت أن تتعامل معها بالشكل الذي أدى إلى حصر تداعياتها السلبية في أضيق نطاق، بسبب نجاحها في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها في هذا الصدد.

ختاماً، وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إنه طالما استمرت التصورات النمطية رقماً مهماً في إدارة التفاعلات مع الآخر، طالما استمرت المفاجآت واردة في المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها تلك التفاعلات.